آثار عصر اندمج فيه الفرد بمجتمعه
لاشك في ان الحديث عن جديد الشعر الاموي دون التعرف على جذوره في العصر الجاهلي أمر غير ممكن ومن هنا , كانت ضرورة هذه الاطلالة .
رحل الشعر العربي على الشفاء زمنا طويلا , ولم يلق عصا الترحال الا وقد انهك . كان الشاعر يعرض ما ينظمه على صفوة رجال القبيلة, وهؤلاء قد يصلحون , وقد يضيفون , لكنهم , ولا شك , كانوا يحفظون ويشكلون اوعية لشعر شاعرهم مستمرة لاتنقطع . وكان يساعد على عدم ضياع الشعر حلقات السمر الدائمة , وقيمة الشعر في العصر الجاهلي , وتخصص رواة في حفظ الشعر ونشره لم تنقطع سلسة تتابعهم .
غير ان ما اشار اليه ابن سلام من تأثير مرده الثورة الاسلامية , يتلخص بفقد كثير من الشعر الجاهلي , مما ادى الى الوضع , جدير بالاهتمام .
واستمرت الرواية الى ان وصلت الى اعلام مشكوك فيهم كمحاد وخلف . وقد لاحظ العلماء المسلمون هذا الانحراف وانتبهوا له وهو يتكون , وعملوا على معالجته , كفعل ابن سلام حيال صنيع ابن اسحق , وكفعل الاصمعي مع حفيد متمم , وكفعل ابي عمرو بالنسبة للمنسوب لحمير وأقاصي اليمن , وكوضعهم مقاييس لقبول الصحيح .
ولم الاهتمام الهائل بحماد! ؟ فإن كان شاعرا بمستوى مجمل فحول الجاهلين , ويستطيع ان يدرك اسرارهم النفسية والفنية , ويتمكن من محاكاة آثارهم بعد ان يستوعب مجمل شروط خلقها , أقول : ان كان قادرا على هذا كله , فهو عبقري وآثاره يجب ان تبهجنا , واني لاتسأل لم تواضع حماد الى هذه الدرجة فلم يصاف الفحول ما دام يبزهم جميعا !؟. ولم اثر جاهليين بفيض عبقريته المنقطعة النظير ! ؟ والتي كانت تؤمن له خلودا ورغد عيش ! فهو كما يقولون : ماجن فاسق زنديق. وإن لم يكن عبقريا الى هذا الحد فنحله لا يأبه له العالم الناقد .
ويتحدث الباحثون عن اثر للتدوين في التوحيد اللغوي والاصلاح الجمالي والترميم الهيكلي . والحقيقة ان تطور اللغة , وبخاصة تسجيل الحروف الصوتية الصغيرة والتنقيط , قد لعب دورا في الحد من الخلافات الناشئة عن القراءة الخالية منا , ووحد قراءة الآثار . اما من ناحية تصرف المدونين والمؤلفين واصلاحهم لهدف جمال ترميمي , فأمر معقول . والحق ان الاثار الجاهلية قد خضعت لتأثيرات من مجتمع القبيلة ورواتها . ولا يغرب عن بالنا ان الشاعر النابه في القبيلة كان يستأثر بمجمل انتاجها , وهذه ظاهرة استمرت حتى العصر الاموي .
يمكن القول إذا: اذا نحينا الشعر الغث جانبا , وكذلك , اذا نحينا الحالات المفضوحة , ووعينا اصلاحات الجامعين والمرممين , تتبقى لنا ثروة شعرية هي في الحقيقة آثار شعرية معطاة من العصر الجاهلي , دون ان يضيرنا عدم التأكد من ملكيتها الفنية الكاملة لفرد , بحيث يمكننا اعتبارها آثارا لعصر اندمج فيه الفرد , بمجمل نشاطاته , في قبيلته , وكان الادب واحدا من هذه النشاطات , بل كان من اهمها في المحيط الجاهلي .
وحدة متكاملة في سبيل التوازن والفوز :
والحق ان الشعر الجاهلي معاناة انسان اصر على البقاء واقفا بوجه عواصف هوجاء , وكان الشعر أهم وسائله في هذا الصراع . الصحراء ...متاهات ومهالك تحتوي نتفا من مستلزمات الحياة , يدور حولها صراع مرير بين الانسان والحيوان , وبين الانسان واخيه , وكل يريد البقاء .
وصف احدهم الصحراء في مجلس عثمان , فلاحظ الخليفة آثارا وصفه في وجوه القوم , فصاح بالرجل: (اسكت , لقد رعبت قلوب المسلمين) . ولعل هذا الوصف الذي تعرفنا على اثاره يساعد في تصورنا للمحيط الذي عاش فيه الشاعر الجاهلي . ولنسمع المتلمس , وهو يتحدث عنه :
وكم دون ميه من مستعمل قذف
ومن ذرى علم طام مناهله
ــــــــــــــ
ومن فلاة بها تستودع العيش
كأنه في حباب الماء مغموس
إنها بعض شروط حياة الصحراء , ولم يكن الصراع مع قوى الطبيعة فحسب , بل كان له شكل آخر عبر عنه المهلهل بقوله :
إن نحن لم نثأر به فاشحذوا
ذبحا كذبح الشاة لاتتقي
ـــــــــــــ
شفاركم , منا لحز الحلوق
ذابحها الا بشخب العروق
ومن يريد ان يكون شاة !؟
ولم يكن الفارس الجاهلي هينا في صراعه , بل كان يقاتل :
قتال امرئ اسى أخاه بنفسه
ويعلم ان المرء غير مخلد
وكان على حاله من تأهب دائمة , صنيع عنترة :
اذ لا أزال على رحال سابح
نهد تعاوره الكماة , مكلم
لعلي أكون قد اشرت الى شروط حياة الجاهلي , وانها , هذه الشروط, دليلنا الى تحديد تجربة الجاهلي , فهو انسان يواجه عالما مليئا بالتحديات . يواجه , متواحدا مع قبيلته , طبيعة قاسية توفر بالكاد الحد الادنى للعيش :
وماء قد وردت اميم طام
على ارجائه زجل القطاط
فبت انهنه السرحان عنه
كلانا وارد حران قاطي
ويواجه مجتمعا الحياة فيه للاقوى , والا فمصير الشاة التي تتقي بشخب العروق بالانتظار , ولكي يبقى كان على الجاهلي أن يستمر واقفا شاهرا سيفه مسرجا فرسه . انها تجربة انسانية خاصة اتخذت مظهرها الادبي في القصيدة الجاهلية , اذ كانت هذه القصيدة اداة الجاهلي في التعبير وفي الاتصال بالعالم , ووسيلته للتوازن في صراعه المرير .
لا ريب ان تجربة الجاهلي بعض من الحياة الانسانية , والحياة كل مترابط , بديه هذا , والبديهي ايضا ان يكون التعبير عن التجربة كلا مترابطا , وان بدا مفككا , فطبيعة التجربة تفرض ما يبدو تشتتا وخروجا عن الوحدة العضوية في القصيدة الجاهلية .
تفرض الرحلة ولا مناص , وتقفر الديار العامرة التي كانت موطن حياة وحب , وتعيده الايام اليها من جديد , فإذا هي اطلال ورسوم وأثافي , ويبكي الجاهلي ! إنها تجربة فريدة هذه التي تبكي الجاهلي , ان هو إلا انسان , ولكن كان عليه الا يتهالك...
فدع عنك شيئا قد مضى لسبيله
ولكن على ما غالك اليوم اقبل
موقف انساني من ناحية , ومتجاوز للضعف في سبيل البقاء من ناحية اخرى , ولعل هذا صلب الموقف . صحيح ان المتأخرين استهلكوا هذه المطالع , ووظفوها في خدمة مواقف مغايرة كما سنرى في الفصول اللاحقة , ولكن هذا لايعني ان تجربة الجاهلي وتعبيره عنها لم يكونا أصليين عميقين . ثم صارت الاطلال رمزا ينفس الشاعر من خلال معايشتها , عما يحسه من احزان والآم . وعلى ضوء هذا الفهم يمكن رؤية مقدمات بعض المتأخرين , ممن أحسنوا استخدام هذه المقدمات في اطار تجربتهم العامة.
والطلل مرتبط بالرحيل الدائم صوب الغيث في بيداء موحشة خطرة . وما كان الرحيل ليتم لولا الناقة القوية , فهي السبيل الى الكلأ , بل الى الحياة . فابنة ذي الاصبع العدواني عندما تصف الناقة بقولها: (نأكل لحمها مزعا , ونشرب البانها جرعا , وتحملنا وضعفتنا معا) تحدد موقعها في حياة الجاهلي كمصدر لهذه الحياة , وكأنيس لوحشتها , ولذا كان من الضروري أن تكون صلبة قوية , وأن تكون علاقة الجاهلي معها حميمة. فالمتلمس بها يجتاز العقبات التي حددها:
جاوزته بأمون ذات معجمة
تهوى بكلكلها والرأس معكوس
تشكل الناقة احدى وسائل الجاهلي لتأكيد ذاته , أو انها بعض ما يجعله واقفا , ومن هنا مكانتها في القصيدة الجاهلية .
وهو يمضي الهم بعنتريس , كما يلهو بحور نواعم في المروط , وتكون هذه الحور أطيب من الخمرة :
وما قهوة صهباء كالمسك ريحها
بأطيب من فيها اذا جئت طارقا
ــــــــ
تعل على الناجود طورا وتنزح
من الليل بل فوها ألذ وانضح
إنه التعامل مع الوجود كوحدة محورها الشاعر , وعلاقته بالاشياء تتحدد من حيث جدواها له ولبقائه واقفا غير منحن .
يريد المرأة كوسيلة , كالخمرة , كالناقة ....ولكن خيبته لا تصل به الى درجة التهالك , فحزنه ربما وصل الى درجة الدموع , ولكنها الدموع الشافية المساعدة على التجاوز . وهذا , لادراكه او لاحساسه بضرورة تماسكه من اجل إكمال مسيرته :
فاقطع لبانه من تعرض وصله
ويئست مما قد شغفت به
ــــــــــــ
ولخير واصل خلة صرامها
منها والا يسليك كالياس
إنها عاطفة صادقة إنسانية , الا انها في خدمة الحياة , شأنها شأن حالة الجاهلي عند وقوفه على الاطلال .
اما الحصان , فالسليك يدلنا على حاجة الجاهلي اليه :
وما يدريك ما فقري اليه
إذا ما القوم ولوا أو أغاروا
أشياء الجاهلي , او وسائله في الصراع , كانت مجال فخرة , اضافة الى امور اخرى تتعلق بالشجاعة والكرم والصبر . والفخر ما كان تبجحا كاذبا , وانما كان في صلب التجربة يؤدي وظيفة محددة , فعندما يتغزل عنترة بعبلة , ثم يفخر , انما يفعل هذا من اجل اشعارها بميزاته , فالعلاقة بينهما لم تكن متكافئة في ظل ظروف المجتمع الجاهلي , ومن اجل طمأنتها . ونحن نعرف كم عانى عنترة من اجل تجاوز وضعه , فقد غدت عبلة قضية حياته , وكان عليه طرق مختلف السبل كي يصل اليها . وقد لاحظ د . شكري فيصل علاقة فخر عنترة بغزله حين قال: (...فالفخر الذي انشده عنترة لم يكن بعيدا عن روح الغزل بل كان منه منبعه ومصدره ....كان الشاعر يريد لصاحبته أن تطمئن اليه....)
والشاعر الجاهلي , بشكل عام , كان يفخر في ظروف مماثلة لهذه , اعني انه كان يفخر في ظروف يكون الفخر فيها لازما . فالفخر يوحد القبيلة ويقنعها بقوتها ويهيئها للمعركة الدائمة ويبقيها على اهمية الاستعداد. فالجاهلي كان بحاجة لان يرهب ويخاف , وبحاجة لان تعلم القبائل الاخرى مدى قوته , بل انه بحاجة لان يعتقد هذا شخصيا ولان يبثه في قبيلته . او ليست حياته حربا دائمة ! ولم نستكثر عليه الفخر ولا نستكثره على اذاعات ايامنا !؟ .
والهجاء , او ما سمي بالهجاء , الم يكن وجها من وجوه الصراع !؟ يتهكم فيه الشاعر على خصومه ويسخر منهم مثبطا من عزائمهم مضعفا فيهم الثقة بالنفس . انه اشبه بما يسمى في هذه الايام بالحرب النفسية . وهل كان الشاعر , في تلك الايام , يفعل غير ما تفعله وكالات الانباء والاذاعات والصحف في هذه الايام !؟ . والجاهلي الشاعر, وسيلة اعلام عصره الوحيدة , كان يخوض الحرب عبر شكل فني جميل , وهذا ما يبدو لنا من خلال الخبر التالي: رأى قيس بن زهير لقومه: حالفوا قوما في صيابة بني عامر , ليس لهم عدد فيبغوا بعددهم عليكم , وان احتجتم ان يقوموا بنصرتكم قامت بنو عامر . فحالفوا معاوية بن شكل .....بن عامر , فمكثوا فيهم فهجاهم النابغة بهذه الابيات:
جزى الله عبس آل بغيض
فأصبحتم والله يفعل ذاكم
إذا شاء منهم ناشء دربخت له
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
يعزكم مولى مواليكم شكل
لطيفه طي الكشح رابية الكفل
* من كتاب الشعر الاموي (بين الفن والسلطان)
__________________
g.com/jyd8a7d8afd8a8j" border="0" alt=""/>